الأرض ، فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر ، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة : قم فارفع هذا الوهي (١) ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، هكذا ذكر ابن حيّان وغيره ، وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أنّ القالي هو المأمور بالكلام أوّلا والمعدّ لذلك ، ونحوه في المطمح ، والخطب سهل ، ثم انقطع القول بالقالي ، فوقف ساكتا مفكّرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه ، وقال في المطمح : إن أبا علي القالي انقطع وبهت ، وما وصل إلّا قطع ، ووقف ساكتا متفكّرا ، لا ناسيا ولا متذكّرا ، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد ـ وكان ممّن حضر في زمرة الفقهاء ـ قام من ذاته ، بدرجة من مرقاته ، فوصل افتتاح أبي علي لأوّل خطبته بكلام عجيب ، ونادى من الإحسان في (٢) ذلك المقام كلّ مجيب ، يسحّه سحّا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدّة ، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي ، فقال (٣) : أمّا بعد حمد الله والثناء عليه ، والتعداد لآلائه ، والشكر لنعمائه ، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه ، فإن لكل حادثة مقاما ، ولكلّ مقام مقال ، وليس بعد الحق إلّا الضلال. وإنّي قد قمت في مقام كريم ، بين يدي ملك عظيم ؛ فأصغوا إليّ معشر الملإ بأسماعكم ، وأتقنوا (٤) عني بأفئدتكم ، إنّ من الحقّ أن يقال للمحقّ صدقت ، وللمبطل كذبت ، وإنّ الجليل تعالى في سمائه ، وتقدّس بصفاته وأسمائه ، أمر كليمه موسى صلّى الله على نبيّنا وعليه وعلى جميع أنبيائه ، أن يذكّر قومه بأيام الله ، عزّ وجلّ ، عندهم ، وفيه وفي رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، أسوة حسنة ، وإنّي أذكّركم بأيام الله عندكم ، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم ، وأمّنت سربكم ، ورفعت قوّتكم (٥) ، بعد أن كنتم قليلا فكثركم ، ومستضعفين فقوّاكم ، ومستذلّين فنصركم ، ولّاه الله رعايتكم ، وأسند إليه إمامتكم ، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق ، وأحاطت بكم شعل النفاق ، حتى صرتم في مثل حدقة البعير ، من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير ، فاستبدلتم بخلافته من الشدّة بالرخاء ، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء ، أنشدكم بالله (٦) معاشر الملإ ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها ، والسّبل مخوفة فأمّنها ، والأموال منتهبة فأحرزها وحصّنها؟ ألم تكن البلاد خرابا فعمرها ، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته ، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته ، حتى أذهب الله عنكم غيظكم ، وشفى صدوركم ، وصرتم يدا على
__________________
(١) الوهي : الضعف.
(٢) في ب : ونادى في الإحسان من ذلك المقام.
(٣) في ب : والقنوا.
(٤) في ب : فرقكم.
(٥) في ب : أنشدكم الله.
(٦) في ب : ناشدتكم الله.