ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه ، فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا ، وقعد عن يمينه وليّ العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله (١) ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان ، وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبّار ثم سليمان ، وتخلّف عبد الملك ؛ لأنه كان عليلا لم يطق الحضور ، وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم ، وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك (٢) ، وظلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور ، فوصل رسل ملك الروم حائرين ممّا رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ، ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون ، وهو في رقّ (٣) مصبوغ لونا سماويا مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي ، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضا مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضا فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها ، وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل ، على الوجه الواحد منه صورة المسيح ، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده ، وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين الملك معمولة من الزجاج الملوّن البديع ، وكان الدّرج داخل جعبة ملبسة بالديباج ، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه : قسطنطين ورومانين (٤) المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم ، وفي سطر آخر : إلى (٥) العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس ، أطال الله بقاءه. ولمّا احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ، لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه ، وتصف ما تهيّأ من توطيد الخلافة في دولته. وتقدّم إلى الأمير الحكم ابنه وليّ عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ، ويقدّمه أمام نشيد الشعراء ، فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البرّ الكسنيانيّ بالتأهّب لذلك ، وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة ، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره ، وحضر المجلس السلطاني ، فلمّا قام يحاول التكلّم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبّهة الخلافة ، فلم يهتد إلى لفظة ، بل غشي عليه وسقط إلى
__________________
(١) في ب : عبيد الله.
(٢) الدرانك : جمع درنك ، وهو بساط ذو خمل قصير.
(٣) الرق ـ بفتح الراء وتشديد القاف ـ الجلد الرقيق يكتب فيه ، وفي التنزيل الكريم (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)
(٤) في ب : ورومانس.
(٥) إلى : ساقطة في ب.