مأسور ، ولو حملته في حواصلها النّسور ، وقد بلغني بعد بقاء المسلمة في تلك الكنيسة ، وو الله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها ، فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها ، وأقسم أنه ما أبصرهنّ ولا سمع بهنّ وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها ، قد بالغ في هدمها ، تحقيقا لقوله ، وتضرّع إليه في الأخذ فيه بطوله ، فاستحيا منه ، وصرف الجيش عنه ، وأوصل المرأة إلى نفسه ، وألحف توحّشها بأنسه ، وغيّر من حالها ، وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها ، وحملها إلى قومها ، وكحلها بما كان شرد من نومها ، انتهى.
وقال في المطمح أيضا في حقه ما نصه : فرد نابه على من تقدّمه ، وصوّبه واستحزمه ، فإنه كان أمضاهم سنانا ، وأذكاهم جنانا ، وأتمّهم جلالا ، وأعظمهم استقلالا ، فآل أمره إلى ما آل ، وأوهم العقول بذلك المآل ، فإنه كان آية الله في اتفاق سعده ، وقربه من الملك بعد بعده ، بهر برفعة القدر ، واستظهر بالأناة وسعة الصّدر ، وتحرّك فلاح نجم الهدوّ ، وتملّك فما خفق بأرضه لواء عدوّ ، بعد خمول كابد منه غصصا وشرقا ، وتعذّر مأمول طارد فيه سهرا وأرقا ، حتى أنجز له الموعود ، وفرّ نحسه أمام تلك السعود ، فقام بتدبير الخلافة ، وأقعد من كان له فيها إنافة ، وساس الأمور أحسن سياسة ، وداس الخطوب بأخشن دياسة ، فانتظمت له الممالك ، واتّضحت به المسالك ، وانتشر الأمن في كل طريق ، واستشعر اليمن كلّ فريق ، وملك الأندلس بضعا وعشرين حجّة ، لم تدحض (١) لسعادتها حجّة ، ولم تزخر لمكروه بها لجّة ، لبست فيه البهاء والإشراق ، وتنفّست عن مثل أنفاس العراق ، وكانت أيامه أحمد أيام ، وسهام بأسه أسدّ سهام ، غزا الروم شاتيا وصائفا ، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا ، فما مرّ له غير سنيح (٢) ، ولا فاز إلّا بالمعلّى لا بالمنيح (٣) ، فأوغل في تلك الشّعاب ، وتغلغل حتى راع ليث الغاب ، ومشى تحت ألويته صيد (٤) القبائل ، واستجرّت في ظلّها بيض الظّبا وسمر الذوابل ، وهو يقتضي الأرواح بغير سوم ، وينتضي الصفاح على كل روم ، ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد ، ويخطف منهم كلّ كوكب وقّاد ، حتى استبدّ وانفرد ، وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد ، وانتظمت له الأندلس بالغدوة ، واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار النّدوة ، ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة ، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة ، ظاهر يخالفه الباطن ، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن ، وأذلّ قبائل الأندلس بإجازة البرابر ، وأخمل بهم أولئك الأعلام
__________________
(١) لم تدحض : لم تبطل.
(٢) السنيح : الطائر يمر من يسار الناظر إلى يمينه وكانت العرب تتيامن به.
(٣) المعلّى : سابع سهام القما ـ ، وهو أعظم القداح نصيبا والمنيح سهم من سهام القمار لا يصيب.
(٤) الصّيد : جمع أصيد ، وهو الذي يميل بعنقه كبرياء.