(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) فهذه النظرة لا تنطلق من عمق الدقّة في الحكم على الأشياء ، لأن الله قد يسهّل للكافرين بعض الوسائل ، ويهيئ بعض الظروف ، للوصول إلى بعض غاياتهم ، في فترة معينة ، ولكن المسألة لن تأخذ الكثير من ذلك في امتداد الزمن ، لأن الله يريد للصراع أن يأخذ مداه ، في ما أودعه الله للحياة من السنن الاجتماعية ، في ما تخضع له حياة الناس من سنن في دائرة النظام الشامل للكون. ثم تنطلق الدعوة للإيمان من مواقع الصراع قويّة صلبة في أجواء المعاناة ، بعد أن تكون قد اكتسبت الكثير من خصائص النجاح ، وعناصر القوّة ، وفتحت أكثر من ثغرة في جدار الكفر ، ليسقط الكفر على أساس تحطيمه في النفوس في دائرة الصراع ، قبل تحطيمه في ساحة الواقع.
إن الكثيرين من الناس قد يتخيلون أن مسألة التقدم والتأخر في حركة الرسالات والمبادئ الأخرى ، تمثل الانطلاقة الأولى في الحركة ، مما يجعل هؤلاء أو بعضهم يسقطون أمام أيّة انتكاسة للإيمان على يدي قوى الكفر ، أو أيّة هزيمة للمسلمين تحت ضغط الكافرين ، ويفكرون أن الله قد خذلهم في ما يريدون ، وما يؤمنون به. ولكن هؤلاء يخطئون في ذلك ، فإن الله لا يريد لدينه أن ينطلق في الساحة العامة للحياة ، من قاعدة المعجزة التي تختصر كل الأسباب التي ترتبط بها النتائج في المواقع ، بل يريد له أن يبدأ في حركته في نطاق عملية النموّ الطبيعيّ الذي تتكامل به الموجودات في وجودها التكويني أو العملي ، لأن ذلك هو السبيل الذي يعمّق الفكرة في العقول وفي القلوب ، ويصنع للإنسان تجاربه المتنوعة في مواجهة التحديات ، ويحقّق له القوّة في وجوده. فإن الصراع كلما اشتد في ضغطة ، كانت النتائج الإيجابية لمصلحة الإيمان ، والنتائج السلبية ضد الكفر ، أكثر تأثيرا ، في ما يعنيه ذلك من أن الله يريد للإنسان أن يحقّق إرادة الله باختياره ، بحيث يعطي الرسالة شيئا من فكره وجهده في ما يؤمن ، وفي ما يحقق للآخرين من فرض الإيمان.