لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منه وللأقل من الناس ، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الأعلام في أنه الغائب ليس لها مثال في الشاهد : فيعبر عنه بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها ، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ الممثل به هو المثال نفسه ، فيلزمه الحيرة والشك ، وهو الذي سمى متشابها في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور ، وهم صنفا الناس في الحقيقة ، لأن هؤلاء هم الأصحاء وأما أولئك فمرضى ، والمرضى هم الأقل ، ولذلك قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (البقرة : ٢٦) وهؤلاء أهل الكلام.
وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم يؤولون كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره ، فقالوا أن هذا التأويل هو المقصود به إنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ، فنعوذ بالله من هذا الظن بالله. بل نقول : إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان ، فإذا ما أبعده عن مقصد الشرع من قال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه ، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه ، وقال لجميع الناس : إن فرضكم اعتقاد هذا التأويل من مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش وغير ذلك ، مما قالوا ان ظاهره متشابه.
وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم عليها برهان ، ولا يعقل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم بها فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل ، فما كان أنفع في العمل كان أجدر ، وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا ، أعنى العلم والعمل.
مثال من أول شيئا من الشرع وزعم أن الذي أوله هو الذي قصده الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر ، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم ، لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس ، فزعم أن بعض الأدوية الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب ، لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل ذلك الاسم عليه.