لهم إليه سبيلا. بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته. وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان ، قد حجبت عنهم معرفة كنهها وكيفيتها.
وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار ، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كنهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل ، وأنهارا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته ، إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من دود القز ، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا ، كما قال ابن عباس «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء والصفات» (١) ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك.
فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها ، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها. وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته الله تعالى لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن ، أحدها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠) الثاني قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) ، الثالث قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فنفي سبحانه وتعالى المثل عن هذا المثل الأعلى ، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته.
فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون ، وأنس به العارفون : وقامت
__________________
(١) ذكره المنذري في «الترغيب» (١ / ٥٦٠) وقال : رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد.