وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ـ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ، ٧٤) فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه ، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره ، كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأوضح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد ، وعاون بعضهم بعضا بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد ، ثم بين عجزهم وضعفهم على استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم ، فأي شيء أضعف من هذا الإله المطلوب ، ومن عابده الطالب نفعه وحده؟ فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها.
فأقام سبحانه حجة التوحيد وبين ذلك بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يشبها غموض. ولم يشنها تطويل ، ولم يعبها تقصير ، ولم يزد بها زيادة ولا نقص. بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهمه متوهم ، ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها ؛ وتحتها من المعنى الجليل القدر ، العظيم الشأن ، البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم وصحة ما جاء به من الكتاب ، وأنه من عنده وكلامه الذي تكلم به ، وأنه ليس من صنع البشر بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...) الآية (البقرة : ٢٣) فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي أنزله على عبده : وأنه كلام الله : أن يأتي بسورة واحدة مثله ، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره ، ثم سمح له إن عجز عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانة به من المخلوقين.
وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (يونس : ٣٨) وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) ـ الآية (هود : ١٣) ، وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (الطور : ٣٣ ـ ٣٤) ثم سجل عليهم تسجيلا عاما في كل مكان وزمان بعجزهم