ومن هذا احتجاجه سبحانه على المشركين بقوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور : ٣٥ ـ ٣٦) فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق وأوضح عبارة.
يقول تعالى : هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا ، فهل خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا من المحال الممتنع عند كل عاقل. ثم قال تعالى : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) وهذا أيضا من المستحيل أن يكون العبد خالقا لنفسه ، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة ، كيف يكون خالقا لنفسه؟ وإذا بطل القسمان تبين أن لهم خالقا خلقهم فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر ، فكيف يشركون إلها غيره وهو وحده الخالق لهم؟
فإن قيل : فما موقع قوله تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من هذه الحجة؟ قيل أحسن موقع ، فإنه بين بالقسمين الأولين أن لهم خالقا فاطرا وبين بالقسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخلقوا فهم عاجزون غير خالقين فإنهم لم يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السموات والأرض وإن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض ، فهو المتفرد بخلق المسكن والساكن.
__________________
فالعلم عند ما يضاف إلى الخفايا الباطنية يسمى خبرة ويسمى صاحبها خبيرا فالله سبحانه لا يجرى في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة فما فوقها وما دونها ولا يسكن ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا وعنده منه خبرة.
وهو يقرب من معنى اللطيف ، ولهذا تجد مقرونا بينهما في بعض الآيات قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وقال الإمام ابن القيمة رحمهالله :
وهو اللطيف بعبده ولعبده |
|
واللطف في أوصافه نوعان |
إدراك أسرار الأمور بخبرة |
|
واللطف عند مواقع الإحسان |
فيريك عزته ويبدي لطفه |
|
والعبد في الغفلان عن ذا الشأن |