ومن هذا ما حكاه الله سبحانه من محاجة صاحب يس لقومه ، بقوله : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس : ٢٠ ـ ٢١) فنبه على وجوب الاتباع ، وهو كون المتبوع رسولا لمن ينبغي أن لا يخالف ولا يعصى ، وأنه على هداية. ونبه على انتقاء المانع ، وهو عدم سؤال الأجر فلا يريد منكم دنيا ولا رئاسة فموجب الاتباع كونه مهتديا والمانع منه منتف ، وهو طلب العلو والفساد وطلب الأجر ، ثم قال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفا لهم ، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول ، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه ، وأنعامه كلها تابعة لايجاده وخلقه. وقد جبل الله العقول والفطر والشرائع على شكر المنعم ومحبة المحسن.
ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك ، فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع ، ثم أقبل عليهم مخوفا الناصح فقال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ثم أخبر عن الآلهة التي تعبد من دون الله أنها باطلة فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) فإن العبد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه ، وأنه إذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضر ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه ، ولا يخلص من ذلك الضر فبأى وجهة تستحق العبادة؟ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن عبدت من دون الله من هذا شأنه.
وهذا الذي ذكرناه من حجاج القرآن يسير من كثير.
والمقصود أنه يتضمن الأدلة العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمع في التشكيك فيها وإيراد الأسئلة عليها إلا لمعاند مكابر ، والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطل حجة نقلية ولا عقلية أما النقل فإنه عنده قابل للتأويل ، وهو لا يفيد اليقين. وأما العقل فلأنه قد خرج عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها عن ظواهرها وحقائقها ، فصارت تلك القواعد