الباطلة حجابا بينه وبين العقل والسمع. فإذا احتج على خصمه بحجة عقلية نازعه خصمه في مقدماتها بما سلم له من القواعد التي تخالفها.
فالمقصود الصريح هو ما دلت عليه النصوص ، فإذا أبطله بالتأويل فلم يبق معه صحيح يحتج به على خصمه كما لم يبق معه منقول صريح ، فإنه قد عرض المنقول للتأويل ، والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول.
ومثال هذا أن العقل الصحيح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حكما لا يقبل الغلط أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما إما أن تكون كل منهما مباينة للأخرى أو محايثة لها ، وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة بنفسها وهذه قائمة بنفسها ، وإحداهما ليست فوق الأخرى ، ولا تحتها ، ولا عن يمينها ، ولا عن يسارها ، ولا محايثة ، ولا داخلة فيها ، ولا خارجة عنها ، فإذا خولف مقتضى هذا المعقول الصريح ودفع موجبه ، فأى دليل عقلي احتج به المخالف بعد هذا على مبطل أمكنه دفعه هو به حكم هذا العقل.
الوجه الأربعون : (١) إن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما يخبر به ، ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء. ولا يستريب في ذلك إلا مصاب في عقله وفطرته ، فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه ، وتكلمه بمشيئته ، وتكليمه لخلقه. ولصفات كماله ، ولرؤيته بالأبصار في الآخرة ولقيام أفعاله به ، إلى براهين نبوته التي زادت على الألف وتنوعت كل التنوع ، فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة؟ وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردها في التشكيك في الحسيات والبديهات. فإنها وإن عجز كثير من الناس
__________________
(١) لم يذكر قبله الوجوه التسعة والثلاثون واختصرها من الأصل لابن القيم.