وحاصل هذا : أنا لا أعلم ثبوت ما أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى نعلم انتفاء ما يعارضه. ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطبقا لما تقدم ، وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض. ولا ريب أن هذا القول أفسد أقوال العالم ، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة ، وليس في عزل الوحي عن رتبته أبلغ من هذا.
الثالث والأربعون : إن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فقال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤) وقد شهد الله له وكفى بالله شهيدا بالبلاغ الذي أمر به ، فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (الذاريات : ٥٤) ، وشهد له أعقل الخلق وأعلمهم وأفضلهم بأنه قد بلغ. فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله ، فقال في خطبته في عرفات في حجة الوداع «إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت : فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدا بربه الذي فوق سماواته ، وقال : «اللهم اشهد» (١) فلو لم يكن عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه العلم واليقين ، لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ، ولما رفع عنه اللوم وغاية ما عند النفاة أنه يضمهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا. وأحالهم في طلب العلم واليقين على عقولهم وفطرهم وآرائهم ، لا على ما أوحى إليه ؛ وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
الرابع والأربعون : أن عقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها وقد أخبر الله أنه قبل الوحى لم يكن يدري ما الإيمان ، كما لم يكن يدري ما الكتاب ، فقال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ
__________________
(١) أخرجه البخاري (١٧٤٢ ، ٤٤٠٦) ، ومسلم (القسامة / ٣١) وغيرهما.