الوجه الثاني : إن قوله إذا تعارض العقل والنقل ، فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض ، وإما أن يريد به الظنيين فالتقديم الراجح مطلقا ، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي. فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ ، وأن جعل سبب التأخير والاطراد كونه نقليا خطأ.
الوجه الثالث : قوله إن قدمنا النقل لزم الطعن في أصله ـ ممنوع ـ فإن قوله : العقل أصل النقل ، إما أن يريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر ، وأصل في علمنا بصحته ؛ فالأول لا يقوله عاقل ، فإنما هو ثابت في نفس الأمر ، ليس موقوفا على علمنا به ، فعدم علمنا بالحقائق لا ينافي ثبوتها في نفس الأمر ، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه ، كما أنه رسول الله حقا وإن كذبه من كذبه ، كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق ، سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلا عن علومنا وعقولنا فالشرع المنزل من عند الله مستغن في علمنا وعقلنا. ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه. فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن له قبل ذلك ، وإذا فقده كان ناقصا جاهلا.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته وهذا هو مراده ، فيقال له : أتعني بالعقل القوة الغريزية التي فينا ، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟ فالأول لم يرده ، ويمتنع إرادته. لأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل ، وإن كانت شرطا في كل علم عقلي أو سمعي ، وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له. وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة بالعقل ، قيل لك : ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته. فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر. والعلم بصحة السمع غايته يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات ، وليس كل العلوم العقلية