(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).
فقوله (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) استفهام إنكار ، يقول كيف أبتغي حكما غير الله وقد أنزل كتابا مفصلا ، فإن قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) جملة في موضع الحال. وقوله (مُفَصَّلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال تعارض بعض نصوصه أو أن نصوصه خليت أو أفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب ، أو أن لها معان لا تفهم ولا يعلم المراد منها ، أو أن لها تأويلات باطلة ، خلاف ما دلت عليه ظواهرها ، فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا ، بل مجمل مؤول ، ولا يعلم المراد منه ، والمراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ، ثم قال (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام : ١١٤) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن ، فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من مشكاة واحدة ؛ لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات ؛ فإن التوراة من ذلك ليس هو المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم ، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن وصدقه ولهذا لم ينكر النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم ما في التوراة من الصفات ؛ ولا عابهم به ؛ ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا ، كما فعل كثير من النفاة وقال : اليهود أئمة التشبيه والتجسيم ، ولا ذنب لهم في ذلك ؛ فإنهم قرءوا ما في التوراة ، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به المعطلة بل شاركوهم فيه ، والذي استشهد الله على نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم ونسبوهم إلى التشبيه والتجسيم. وهذا ضد ما عليه الرسول وأصحابه ، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئا من هذا الذي تسميه المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه وأقرهم ولم ينكره ، كما صدقهم في خبر الحبر الذي ثبت من حديث ابن مسعود وضحك تعجبا وتصديقا له (١) وفي غير ذلك. ثم قال (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الأنعام : ١١٥) فما أخبر به فهو صدق ، وما أمر به فهو عدل.
__________________
(١) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٧٤١٤ ـ ٧٤١٥) عن عبد الله بن مسعود أن يهوديا جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على