وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما. إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولى على الناس عبد الله المأمور. وكان يحب أنواع العلوم ، وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم ، فغلب عليه حب المعقولات ، فأمر بتعبير كتب يونان (١) ، وأقدم لها المترجمين من البلاد ، فترجمت له وعبرت ، فاشتغل بها الناس. والملك سوق ما ينفق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل ؛ فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها استحسنها ودعا الناس إليها عاقبهم عليها. فلم تطل مدته. فصار الأمر بعده إلى المعتصم ، وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل ، فقام بالدعوة بعده ، والجهمية تصوب فعله وتدعو إليه وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم. وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه ، والقضاة والولاة منهم. فإنهم تبع لملوكهم ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم العقول والآراء عليها. فإن الإسلام كان في ظهور وقوة ، وسوق الحديث نافقة ، وأعلام السنة على ظهر الأرض ولكن كانوا على ذلك يحومون وحوله يدندنون ، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة ؛ فمن بين أعمى مستجيب ؛ ومن بين مكره مفتد بنفسه منهم بإعطاء ما سألوه. وقلبه مطمئن بالإيمان. وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد. فأقامهم لنصرة دينه ، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون : فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة : ٢٤) فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ، ولم يتركوا سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رغبوهم به من الوعد ولا لما أرعبوهم به من الوعيد. ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ، ونصر السنة نصرا عزيزا ، وفتح لأهلها فتحا مبينا ، حتى صرخ بها على رءوس المنابر ، ودعى إليها في كل باد وحاضر ، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله.
ثم انقرض ذلك العصر وأهله ، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله
__________________
(١) يعني ترجمتها وتفسيرها.