وتلقوه عن الرسل ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشبه القادحة في ذلك ، وإذا وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورة من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك.
فلو قال قائل : هذا الذي علمتموه لا يثبت إلا بالجواب عما عارضه من العقليات. قالوا ، لقائل هذه المقالة : هذا كذب وبهت : فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل ، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلها لم يثبت لنا ولا لأحد علم بشيء من الأشياء ، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه الخيالية وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا فشيئا ، بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته. ولم يكن ما يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به ، ولو كانت الشبهة ما كانت ، فما من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة ويعجز السامع عن حلها. ولو شئنا لذكرنا لك طرفا منها تعلم أنه أقوى من شبه الجهمية النفاة لعلو الرب على خلقه وكلامه وصفاته.
وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن الإنسان تتبدل نفسه الناطقة في الساعة الواحدة أكثر من ألف مرة ، وكل لحظة تذهب روحه وتفارقه وتحدث له روح أخرى غيرها أبدا ، وما أقاموا من الشبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظة ويخلفها غيرها ، وما أقاموا من الشبه على أن روح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه ، وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح ، وما أقاموا من الشبه أن الإنسان إذا انتقل من مكان إلى مكان لم يمر على تلك الأمكنة الأخرى التي من مبدأ حركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها ، وهي مسألة طفرة النظام ؛ وأضعاف أضعاف ذلك.
وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقولون إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق ولا فرق بينهما البتة ، وإن الاثنين واحد ، وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد ويقيمون على ذلك شبها كثيرة قد نظمها ابن الفارض في «قصيدته» ،