والجزئيات ، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته ، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشرك ، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شركا.
وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه ، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة ، وإنكار وجهه الأعلى ، ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه. وسائر ما أخبر به الرسول عنه. ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله ، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد (١).
ثم يقال : لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة المعطلون لكان قبول الفطر له أعظم من قبولها للإثبات الذي هو ضلال وباطل عندهم ، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل ، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق. ولو لا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام. كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولو لا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها ، فكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك ، وخاصية العقل التفريق بين الحق والباطل ، كما أن خاصة السمع التفريق بين الأصوات حسنها وقبيحها ، وخاصة البصر التمييز بين المرئيات وأشكالها وألوانها ومقاديرها فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق ، وأنها لو صرح لها به لأنكرت ولم تذعن إلى الإيمان. فقد سلبتم العقول خاصتها وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفطرها عليها ، وكان نفس ما ذكرتم أن الرسل لو خاطبت به الناس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم : وأنه مخالف للعقل والفطرة ، كما هو مخالف للسمع والوحي.
__________________
(١) راجع في ذلك (ص ١٩٠).