وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هى قليل من كثير مما يدل على بطلانه ، ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل أنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي.
والوجه الثالث والأربعون : إن السمع حجة الله على خلقه ؛ وكذلك العقل ، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركبه فيهم من العقل ؛ وإن ما أنزل إليهم من السمع ما لا يدفعه العقل فإن العقل الصريح لا يتناقض في نفسه ، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه. وكذلك العقل مع السمع ، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض ؛ ولكن تتوافق وتتعاضد ، وأنت لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ؛ وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض فيها السمع بالمعقول. ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه فنقول.
قال الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر ، معطلة الصفات : صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه ، وقيام المعجزة الدالة على صدقه ؛ موقوف على العلم بأن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة الدالة على صدقه. والعلم بذلك موقوف على العلم بقبحه وعلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح ؛ وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه غني عنه عالم بقبحه ، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله ؛ وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم ؛ وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به ؛ وهي الصفات والأفعال ، نفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الأجسام ؛ والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ، وما لا تخلو عن الحوادث لا يسبقها ، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث. وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين ، فهي حادثة ، فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها. وأيضا فإن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة ؛ والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره ، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا ، فالأجسام متماثلة ، كل ما صح