تكون على ذنب بل هي جارية مجرى توله الآلام عما يأكله ويشربه ويتمتع به ، فتولدت تلك الذنوب بعد البلوغ عن تلك الأسباب المتقدمة قبله ، وهذا القول الوسط في العقوبة على العدم ، وهو الذي دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام : ١١٠) فأخبر سبحانه عن عقوبتهم على عدم الإيمان بتقليب أفئدتهم وأبصارهم.
فإن قلت : هذه عقوبة على أمر وجودى وهو تركهم الإيمان بعد إرسال الرسول ودعائه لهم ، قلت : الموجب لهذه العقوبة الخاصة هو عدم الإيمان ، ولكن إرسال الرسول وترك طاعته شرط في وقوع العذاب ، فالمقتضى قائم هو عدم الإيمان لكنه مشروط وقوعه بشرط وهو إرسال الرسول ، ففرق بين انتفاء الشيء لانتفاء موجبه ومقتضيه ، وانتفائه لانتفاء شرطه بعد قيام المقتضى.
* * *
فصل
وكذلك قوله في الحديث الذي رواه أبو داود ، والحاكم في «مستدركه» من حديث ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» (١). وهو ما يحتج به الجبرية ، وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق وتلقوه بالقبول ، وعلموا من عظمة الله وجلاله وقدر نعمه على خلقه عدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإما إضاعة وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ولو من بعض الوجوه ، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا
__________________
(١) رواه الإمام أحمد (٥ / ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٩) ، وأبو داود (٤٦٩٩) ، وابن ماجه (٧٧) ، وصححه الألباني.