وعبادته وطاعته ؛ وفطروا على ذلك وهيئوا له ومكنوا منه ، وجعل فيهم الاستعداد والقبول وبهذا قامت حجة الله عليهم وظهر عدله فيهم ، فلما أبوا واستكبروا أن ينقادوا لطاعته وتوحيده ومحبته كانوا هم الظالمين المعتدين المستحقين للعذاب ؛ فجعل تعذيبهم من تمام نعيم أوليائه ، ومصلحة محضة في حقهم ، فإنهم لما فوتوا المصالح التي خلقوا لأجلها واستحقوا عليها العقوبة صارت تلك العقوبة مصالح لأوليائه. وهذا بمنزلة ملك له عبيد ، هيأ كل واحد منهم لخدمته والقرب منه والحظوة بكرامته ، فأبى بعضهم ذلك ولم يرضى به ، فسلط الملك عبيده المطيعين له عليهم ، وقال أبحت لكم دماءهم وأموالهم ونسائهم ومساكنهم شكرا لكم على طاعتى ، وعقوبة لهم على استكبارهم عنها ، وأريتكم عظيم نعمتى عليكم بما أنزلت بهم من نقمتى. فإنكم لو عملتم مثل عملهم جعلتكم بمنزلتهم ، فكلما شاهدوا عقوبتهم ازدادوا محبة ورغبة وذكرا وشكرا للملك واجتهادا في طاعته وبلوغ مرضاته ؛ وتلك العقوبة التي نالتهم إنما هى بسبب أعمالهم ، لم يظلمهم الملك شيئا ، ولله المثل الأعلى والنعمة السابغة والحجة البالغة ، قال الله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (النساء : ١٤٧).
فتأمل ما تحت هذا الخطاب من العدل واللطف والرحمة ، وأنه سبحانه ليس له غرض في تعذيبكم ، ولا يعذبكم تشفيا ولا لحاجة به إلى ذلك ، ولا هو ممن يعذب سدى باطلا بلا موجب ولا سبب ، ولكن لما تركتم الشكر والإيمان واستبدلتم به الكفر والشرك وجحود حقه عليكم وإنكار كماله ، وأبدلتم نعمته كفرا ؛ أحللتم بأنفسكم جزاء ذلك وعقوبته وسعيتم بجهدكم إلى دار العقوبة ساعين في أسبابها ، بل دعاته ورسله تمسك بأيديكم ، وحجزكم عن الطريق الموصلة إلى محل عذابه ؛ وأنتم تجاذبونهم أشد المجاذبة وتتهافتون فيها. ولم يكفكم ذلك حتى بغيتم طريق رضاه ورحمته عوجا ؛ وصددتهم وعنها ونفرتم عباده عنها بجهدكم ، وآثرتم موالاة عدوه على موالاته وطاعته ، فتحيزتم إلى