ودوامه وخلوده وثباته بحسب ما يليق به من البقاء والإقامة قال تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (النبأ : ٢٣) وهذا لا يقال في لبث لا انتهاء له ، وتأويل الآية عند من تأولها أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا : لا يفيدهم شيئا ، فإنه يلزم على تأويله أنهم يذوقون البرد والشراب بعد مضى تلك الأحقاب : ومتى ذاقوا البرد والشراب انقطع عنهم العذاب.
الوجه الثالث عشر : أنه سبحانه وتعالى يذكر نعيم أهل الجنة فيصفه بأنه غير منقطع ، وأنه ما من نفاد. ويذكر عقاب أهل النار ثم يخبر معه أنه فعال لما يريد أن يطلقه فالأول كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٦ ـ ١٠٨) وأما القول الثاني فكقوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ، هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ، إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ، هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص : ٤٩ ـ ٥٦) ولم يقل فيه ما قاله في النعيم.
وقريب من هذا سبحانه وتعالى يذكر خلود أهل النعيم فيه ، فيقيده بالتأبيد ويذكر معه خلود أهل العذاب ، فلا يقيده بالتأبيد ؛ بل يطلقه ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة : ٦ ـ ٨) ولا ينتقض هذا بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (الجن : ٢٣) فإن تأبيد الخلود فيها لا يستلزم أبديتها ودوام بقائها ؛ بل يدل على أنهم خالدون