فيها أبدا ما دامت كذلك فالأبد استمرارهم فيها ما دامت موجودة وهو سبحانه لم يقل أنها باقية أبدا. وفرق بين الأمرين فتأمله. على أن التأبيد قد جاء في القرآن فيما هو منقطع كقوله عن اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (البقرة : ٩٥) وهذا إنما هو أبد مدة حياتهم في الدنيا ؛ وإلا فهم في النار يتمنون الموت حين يقولون (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (الزخرف : ٧٧) وقول العرب : لا أفعل هذا ابدا ، ولا أتزوج أبدا ، أشهر من أن تذكر شواهده وإنما يريدون مدة منقطعة. وهي أبد الحياة ومدة عمرهم فهكذا الأبد في العذاب وهو أبد مدة بقاء النار ودوامها.
الوجه الرابع عشر : أنه لو كانت دار الشقاء دائمة دوام دار النعيم وعذاب أهلها فيها مساويا لنعيم أهل الجنة بدوامه لم تكن الرحمة غالبة للغضب بل يكون الغضب قد غلب الرحمة ، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء ملزومه. والشأن في بيان الملازمة ، وأما انتفاء اللازم فظاهر. وقد دل عليه الحديث المتفق علي صحته من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبى» (١) وبيان الملازمة أن المعذبين في دار الشقاء أضعاف أضعاف أهل النعيم ، كما ثبت في «الصحيحين» «إن الله تعالى يقول : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : إن الله يأمرك أن تبعث من ذريتك بعث النار ، فيقول : ربي ، وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة ، فقال الصحابة : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد؟ فقال : «إن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج» (٢) فعلى هذا أهل الجنة عشر عشر أهل النار وإنما دخلوها بالغضب ؛ فلو دام هذا العذاب دوام النعيم وساواه في وجوده لكانت الغلبة للغضب. وهذا بخلاف ما إذا كانت الرحمة هي الغالبة فإن غلبتها تقتضى نقصان عدد المعذبين أو مدتهم.
__________________
(١) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».
(٢) رواه البخاري (٣٣٤٨) ، ومسلم (٢٢٢).