وإن قلتم القرائن نوعان : لفظية وعقلية : فما توقف فهم المراد منه على القرائن العقلية فهو المجاز وما توقف على اللفظية فهو الحقيقة.
قيل : هذا لا يصح فإن العقل المجرد لا مدخل له في إفادة اللفظ لمعناه سواء كان حقيقة أو مجازا وإنما يفهم معناه بالنقل والاستعمال. وحينئذ فيفهم العقل المراد بواسطة أمرين (أحدهما) أن هذا اللفظ اطرد استعماله في عرف الخطاب في هذا المعنى ، (الثاني) علمه بأن المخاطب له أراد إفهامه ذلك المعنى. فإن تخلف واحد من الأمرين لم يحصل الفهم لمراد المتكلم. وأما القرينة المجردة بدون اللفظ فإنها لا تدل على حقيقة ولا مجاز. وإن دلت على مراد الحى فتلك دلالة عقلية بمنزلة الإشارة والحركة والأمارات الظاهرة. وإن أردتم أن المعني الإفرادى تقيده الحقيقة بمجرد لفظها ولا يقيده المجاز إلا بقرينة تقترن بلفظه ، قيل لكم : المعنى الإفرادى نوعان مطلق ومقيد ، فالمطلق يفيده اللفظ المطلق ، والمقيد يفيده اللفظ المقيد ، وكلاهما حقيقة فيما دل عليه فمعنى الأسد المطلق يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه وهو المقيد يفيده اللفظ المقيد ، وكلاهما حقيقة فيما دل عليه. فمعنى الأسد المطلق يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه وهو المقيد يفيده لفظه المقيد ، وليس المراد هنا بالمطلق الكلي الذهني ، بل المراد به المجرد عن القرينة وإن كان شخصا. وهذا الأمر معقول مضبوط يطرد وينعكس.
فإن قيل : فلم تشاححونا (١) فإنا اصطلحنا على تسمية المطلق بالاعتبار الّذي ذكرتموه حقيقة وعلى تسمية المقيد مجازا.
قيل : لم نشاححكم في مجرد الاصطلاح والتعبير. بل بينا أن هذا الاصطلاح غير منضبط ولا مطرد ولا منعكس ، بل هو متضمن للتفريق بين المتماثلين من كل وجه ، فإنكم لا تقولون إن كل ما اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد فهو مجاز ، إذ عامة الألفاظ كذلك. ولهذا لما تفطن بعضكم
__________________
(١) الشحناء : الحقد والعداوة والبغضاء ، وتشاحنوا : تباغضوا وتعادوا ا ه (الوجيز)