(آل عمران : ٥٤) فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الرب سبحانه يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق. فهو حينئذ مجازيا بالنسبة إليه ، حقيقة بالنسبة إليهم ، وهذا أيضا من النمط الأول في الفساد. أما (أولا) فإن دعواكم أن إطلاقه على أحد مدلوليه متوقف على استعماله في الآخر دعوى باطلة مخالفة لصريح الاستعمال. ومنشأ الغلط فيها أنكم نظرتم إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (النمل : ٥٠) وذهلتم عن قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩) فأين المسمى الآخر. وكذلك قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (الرعد : ١٣) فسر بالكيد والمكر. وكذلك قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف : ١٨٢ ، ١٨٣).
(فإن قلتم) يتعين تقدير المسمى الآخر ليكون إطلاق المكر عليه سبحانه من باب المقابلة ، كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (الطارق : ١٥ ، ١٦) ، وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (النساء : ١٤٢) ، وقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) فهذا كله إنما يحسن على وجه المقابلة ، ولا يحسن أن يضاف إلى الله تعالى ابتداء فيقال إنه يمكر ويكيد. ويخادع وينسى ولو كان حقيقة لصلح إطلاقه مفردا عن مقابلة ، كما يصح أن يقال : يسمع ويرى. ويعلم ويقدر.
(فالجواب) أن هذا الّذي ذكرتموه مبني على أمرين : أحدهما معنوى والآخر لفظي. فأما المعنوى فهو أن مسمى هذه الألفاظ ومعانيها مذمومة فلا يجوز اتصاف الرب تعالى بها. وأما اللفظي فإنها لا تطلق عليه إلا على سبيل المقابلة فتكون مجازا ، ونحن نتكلم معكم في الأمرين جميعا. فأما الأمر المعنوى فيقال لا ريب أن هذه المعانى يذم بها كثيرا ، فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق علي سبيل المدح بخلاف أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم ، والصواب