لبحرا (١). فادعى المدعى أن هذا مجاز ، وكان ظن أن العرب وضعت البحر لهذا الماء المستبحر ثم نقلته إلي الفرس لسعة جريه فشبهته به فأعطته اسمه ، وهذا إن كان محتملا فلا يتعين ولا يصار إلى القبول به لمجرد الاحتمال فإنه من الممكن أن يكون البحر اسما لكل واسع ، فلما كان خطو الفرس واسعا سمى بحرا ، وقد تقيد الكلام بما عين مراد قائله بحيث لا يحتمل غيره ، فهذا التركيب والتقييد معين لمقصوده ، وأنه بحر في جريه لا أنه بحر ماء نقل إلى الفرس.
(يوضحه) إنهم قصدوا تسمية الخيل بذلك فقالوا للفرس جواد وسابح وطرف ، ولو عرى الكلام من سياق يوضح الحال لم يكن من كلامهم ؛ وكان فيه من الإلباس ما تأباه لغتهم ؛ ألا ترى أنك لو قلت رأيت بحرا وأنت تريد الفرس ، أو رأيت أسدا وأنت تريد الرجل الشجاع لم يكن ذلك جاريا على طريق البيان : فكان بالألغاز والتلبيس أشبه منه بالمائدة وهؤلاء المتكلفون والمتكلمون بلا علم يقدرون كلاما يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إلى الكلام المستعمل ، وهذا غلط ؛ فإن الكلام المستعمل لا بد أن يقترن به من البيان والسياق ما يدل على مراد المتكلم ، وذلك الكلام المقدر مجرد عن ذلك ؛ ولا ريب أن الكلام يلزم في تجرده لوازم لا تكون له عند اقترانه وكذلك بالعكس ، ونظير هذا الغلط أيضا أنهم يجردون اللفظ المفرد عن كل قيد ثم يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره ؛ فيقولون الأسد من حيث يقطع النظر عن كل قرينه هو الحيوان المخصوص ، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير وهذا غلط ؛ فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام ولا يفيد فائدة أصلا ؛ وهو صوت ينعق به ؛ يوضحه.
الوجه الثاني والثلاثون : إنكم إما تعتبروا تحقيق الوضع الأول الذي يكون اللفظ بالخروج عنه مجازا أو تعتبروا تقديره ، فإن اشترطتم تحقيقه بطل التقسيم
__________________
(١) أخرجه البخارى (٢٨٢٠ ، ٢٨٥٧) ، ومسلم (٢٣٠٧).