وأما من أقر أن الله تعالى تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها حقيقة ، وأن موسى سمع كلامه منه إليه بلا واسطة ، وأنه يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم ملائكته ، فإنه لا يتصور على أصله دخول المجاز في كلامه ، ولو كان ثابتا ولا سيما على أصول من يجعل كلام الله معنى واحدا لا تعدد فيه ، وهذه العبارات دالة على ذلك المعنى ؛ فليس بعضها أسبق من بعض تلك المفهومات له بالوضع الأول وبعضها بالوضع الثاني ، وكذلك من يجعل الألفاظ الدالة على المعاني قديمة لا يسبق بعضها بعضا ؛ فكيف يعقل عند هؤلاء وضع أول يكون حقيقة ، ووضع ثان يكون مجازا؟ وسنذكر إن شاء الله تعالى فساد دعواهم في الألفاظ والقرآن أنها مجاز لو كان مجاز حقا.
فإن قيل : الرب سبحانه خاطبهم بما ألفوه من لغاتهم واعتادوا من التفاهم منها ، فلما كان من خطابهم فيما بينهم الحقيقة والمجاز ، جاء الله لهم بذلك ليحصل لهم الفهم والبيان قيل : خطاب الله تعالى سابق على مخاطبة بعضهم بعضا. فهل كان في كلامه سبحانه ألفاظ وضعت لمعان ثم نقلها سبحانه عنها إلى معان آخر؟ فهل يتصور هذا القدر في كلامه ؛ وإن كان ذلك في مخاطبة بعضهم بعضا؟ يوضحه :
الوجه الخامس والثلاثون : وهو أن الله هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم فعلمهم المعانى وصورها في نفوسهم ، وعلمهم التعبير عنها بتلك الألفاظ كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فهو سبحانه علم الإنسان أن يبين عما في نفسه وأقدره على ذلك وجعل بيانه تابعا لتصوره واحتياجه إلى التعبير عما في نفسه ، وذلك من لوازم نشأته وتمام مصلحته ، والمعانى التي يدعى أن اللفظ حقيقة فيها أو يكون معها ، وحاجتهم إلى التعبير عن الجميع سواء فكيف يدعى أن اللفظ وضع لبعضها دون بعض مع شدة الحاجة إلى التعبير عن الجميع؟ هذا مما يأباه العقل والعادة ، ولا سيما على