وابن جني وذووه لو اعترفوا بأن له سبحانه أفعالا حقيقة لكانت كلها مجازا عندهم لما قرره من دلالة الفعل على جميع الأفراد والجنس ، وأما أن يستحيوا من العقلاء ويقولوا أن ذلك حقيقة فيلزمهم التناقض وهو أيسر الإلزامين ، فالأفعال دالة على المصادر المطلقة لا العامة ، فإذا التزم هؤلاء أنها مجازات لتقييدها بفاعليها كان ذلك كالتزام أولئك أن الألفاظ العامة ، إذا خصت صارت مجازات ، فكما لزم أولئك أن تكون لا إله إلا الله مجازا ، لزم هؤلاء أن يكون محمد رسول الله مجازا ، إذا تقييد هذا المطلق قد أخرجه عندهم عن موضوعه ، كما أن تخصيص ذلك العام قد أخرجه عند أولئك عن موضوعه ، والطائفتان مخطئتان أقبح خطأ : فاللفظ لم يخرج عن موضوعه بالتخصيص ولا التقييد ويزيده إيضاحا :
الوجه السابع والثلاثون : إن اللفظ لو كان يخرج بالتخصيص والتقييد عن موضوعه لكن عدة موضوعات بحسب تعدد قيوده. فإما أن يدعى أنه مجاز في ذلك كله أو حقيقة في الجميع ، أو يفرق بين بعض المحال وبعض فالأول والثالث باطلان فيتعين الثاني.
مثال ذلك في الأفعال أنهم يقولون : قام ؛ فيفيد إثبات القيام ، ويقولون : ما قام ؛ فيفيد انتفاء القيام ، ويقولون : أقام؟ فيفيد معنى آخر وهو الاستفهام عن وجود القيام ، يقولون : متى قام؟ فيفيد السؤال عن زمن قيامه ، ويقولون : أين قام؟ فيفيد السؤال عن مكانه قيامه. ويقولون : يقوم : فيفيد عن معنى قام ، ويقولون : قم ، فيفيد عن المعنيين ، وقد اختلفت دلالة اللفظ باختلاف هذه القيود ، وهى حقيقة في الجميع وكذلك إذا قلت : المسلمون كلهم في الجنة كان حقيقة ، وإذا قلت : الناس كلهم في النار إلا المسلمين كان حقيقة ، وإذا قلت : أعتق رقبة كان حقيقة ، وإذا قلت : رقبة مؤمنة ، كان حقيقة ، وكذلك إن زدت في تقييدها : بالغة عاقلة عربية ناطقة ونحو ذلك نقضت دلالة اللفظ المطلق ولم يخرج عن حقيقته ، ومن زعم أنه قد خرج عن حقيقته وموضوعه فقد أخطأ ؛ فهكذا إذا قلت : ركبنا البحر فهاج بنا ، كان حقيقة فإذا قلت : أتينا البحر