والجواد بقرينة ، والأسد موضوع للحيوان المفترس بمجرده ، وللرجل الشجاع بقرينة. وإذا كان كذلك ارتفع المجاز في اللغة. وهذا سؤال صحيح ، ولهذا لم يجبهم عنه منازعون إلا بأنه مشترك الإلزام ، فقالوا في جوابهم : إن هذا لزمنا في التخصيص لزمكم في الاستثناء ، فإنكم تقولون في الاستثناء ما نقوله نحن في التخصيص.
هذا لفظ جوابهم ، فقد اعترف الفريقان بأن القول بكون العام المخصوص حقيقة ينفي المجاز بالكلية ، ولم يكن عند القائلين جواب سوى أن هذا يلزمنا ويلزمكم جميعا ، فثبت باعتراف الفريقين لزوم نفي المجاز لكون العام المخصوص حقيقة ، وجمهور أهل الأرض على أنه حقيقة ، بل لا يعرف في ذلك خلاف متقدم البتة. فإذا كان الحق أنه حقيقة ولزمه نفي المجاز ولازم الحق حق ، فنفي المجاز هو الحق ، فهذا تقرير نفي المجاز من نفس قولهم تقريرا لا حيلة لهم في دفعه.
الوجه الثاني والأربعون : إن القائلين بالمجاز قالوا ـ واللفظ لأبي الحسين ـ يعرف المجاز بالاستدلال ، وذلك بأن يسبق إلى أذهان أهل اللغة عند سماع اللفظ من غير قرينة معنى من المعانى دون معنى آخر ، فعلموا بذلك أنه حقيقة فيما سبق إلى الفهم ، لأنه لو لا أنه قد اضطر السامع من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ ـ لذلك المعنى ما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره.
فهذا الكلام يتضمن أمرين (أحدهما) أن يكون السابق يسبق إلى أفهام أهل اللغة دون غيرهم ، فمن لم يكن من أهل اللغة العربية التي بها نزل القرآن ، لم يكن من أهل هذه اللغة كالنبط (١) الذين أكثر عاداتهم استعمال كثير من الألفاظ في غير ما كانت العرب تستعمله فيها ، وحينئذ فلا عبرة بالسبق إلى أفهام النبط الذين ليسوا من هؤلاء العرب العرباء ، فأكثر القائلين بالمجاز أو كلهم ليسوا من
__________________
(١) الأنباط : شعب سامي كانت له دولة في شمالى شبه الجزيرة العربية ، وعاصمتهم «سلع» ؛ وتعرف اليوم ب «البتراء» (الوجيز).