أولئك العرب ، بل من النبط الذين لا يحتج بفهمهم باتفاق العقلاء وأما العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ففهمهم هو الحجة.
فقولكم أمارة الحقيقة السبق إلى الفهم ، أفهم هؤلاء تريدون أم فهم النبط؟
وإذا كانت العبرة بفهم العرب فالله يعلم وملائكته وكتبه ورسله والعقلاء أن أحدا منهم لم يقل قط إن هذا اللفظ مستعمل فيما وضع له. وهذا غير مستعمل فيما وضع له. ولا قال عربى واحد منهم إن هذا حقيقة وهذا مجاز ، ولا قال أحد منهم إن هذا المعنى هو السابق إلي الفهم من هذا اللفظ دون هذا المعنى ، بل هم متفقون من أولهم إلى آخرهم على أن كل لفظ معه قرينة يسبق إلي الفهم ما يدل عليه مع تلك القرينة ، وذلك بالاطراد لهم لم يوقفهم عليه موقف ، بل هو معهم من أصل النشأة وهم أكمل عقولا وأصح أذهانا أن يجردوا الألفاظ عن جميع القرائن وينعقوا بها كالأصوات الغفل التي لا تفيد شيئا.
الأمر الثاني : قولكم أن يسبق إلى أفهام أهل اللغة عند سماع اللفظة من غير قرينة معنى ، فهذا نكرة في سياق النفى يعم كل قرينة ، وليس شيء من الكلام المؤلف المقيد يفيد بغير قرينة ، بل إما أن يكون مؤلفا من اسمين أو من اسم وفعل أو من اسم وحرف على رأى ، ولا بد أن تعرف عادة المتكلم في خطابة ولا بد من سياق يدل على المراد ، ولا بد من قيد يعين المراد ، فإن أردتم السبق إلى الفهم بدون كل قرينة ، فهذا غير موجود في الكلام المؤلف المنظوم ، ويوضحه :
الوجه الثالث والأربعين : إن القائلين بالمجاز قالوا : الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا ، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا بقرينة ، ومنهم من قال القرينة استعمال الحقيقة في موضعه ، والمجاز استعماله في غير موضعه ، على التقديرين فالاستعمال عندكم داخل في حد الحقيقة ، والمجاز إما بالتضمن على الرأى الأول وإما بالمطابقة على الرأى الثانى ، وإذا كان كذلك فاللفظ المجرد عن جميع القرائن لا يستعمله العقلاء لا من العرب ولا من