التى لا تحصل إلا مع حضور ما يتنعم به لا مع التنغيص بانتظاره ، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر بغير الرؤيا وإن كان النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (الحديد : ١٣) وقوله (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل : ٣٥).
ومثل هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) فقل له : العرش له عدة معان والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول :
فيقال لهذا الجاهل : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت وأصحابك مشبها؟ وقد قال لك نفس ما قال الله تعالى. فو الله لو كان كما تزعم لكان أولى الله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص.
(وأما قولك) العرش له سبعة معان ونحوها ، والاستواء له خمسة معان ، فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الّذي استوى عليه إلا معنى واحد ؛ وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معينا وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل ؛ وأقرت به الأمم إلا من نابذ الرسل.
وقولك الاستواء له عدة معان تلبيس آخر منك ، فإن الاستواء المعدّى بأداة «على» ليس له إلا معنى واحد. وأما الاستواء المطلق فله عدة معان فإن العرب تقول : استوى كذا : انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) (القصص : ١٤) وتقول : استوى إلى كذا ، إذا ساواه ؛ نحو قولهم : استوى الماء والخشبة ، واستوى الليل والنهار. وتقول : استوى إلى كذا إذا قصد إليه علوا وارتفاعا نحو استوى إلى السطح والجبل ؛ واستوى على كذا أي ارتفع عليه وعلا عليه. ولا تعرف العرب غير هذا. فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه كما هو نص في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه ولا يحتمل غيره.