فهم منكرون ما جاءت به الرسل بما هو من نوعه أو دونه ، وهذا غاية الضلال فليتأمل ذلك.
الوجه السابع عشر : إن من ادعى أن رحمة الله مجاز أو اسمه الرحمن الرحيم ، إما أن يثبت لهذا اللفظ معنى أو لا. والثاني يقر المنازع ببطلانه ، وإذا كان لا بد من إثبات معنى لهذا اللفظ ، فإما أن يتضمن محذورا أو لا ، فإن تضمن محذورا لم يجز إثباته ، وإن لم يتضمن محذورا لم يمكن إثباته وإخراج اللفظ عن حقيقته أولى من بقاء اللفظ على حقيقته ، وإثبات معناه الأصلي ، إذ انتفاء المحذور عن حقيقة والمجاز واحد ، وتسلم الحقيقة وهي الأصل ، فأما إخراج اللفظ عن حقيقته لأمر لا يتخلص به في المجاز ولا محذور منه في الحقيقة ولا في المجاز فلا معنى له بل هو خطأ محض.
الوجه الثامن عشر : إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته والرضوان وثوابه المنفصل فقال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة : ٢١) فالرحمة والرضوان صفته والجنة ثوابه ، وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثوابا منفصلا مخلوقا ، وقول من قال : هي إرادته الإحسان ، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة ، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان ، وكذلك لفظ اللعنة والغضب والمقت هي أمور مستلزمة للعقوبة ، فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها ، فإن ثبوت اللازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع ، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها.
الوجه التاسع عشر : إن ظهور آثار هذه الصفة في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة ، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة تامة وسعت كل شيء ، كما أن الموجودات كلها شاهدة له بالربوبية التامة الكاملة. وما في العالم من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه. فجعل صفة الرحمة واسم الرحمة مجازا كجعل صفة الملك والربوبية مجازا ، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة.