ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه. وقالوا : كيف تدعونا إلى عبادة رب صورته هذه الصورة الشنيعة؟ وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير. كما أوردوا عليه المسيح لما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ؛ فتعلقوا بظاهر ما لم يدل عليه ما أورده ، وهو دخول المسيح فيما عبد من دون الله إما بعموم لفظ (ما) وإما بعموم المعنى. وأورد أهل الكتاب على قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) (سورة مريم : ٢٨) أن بين هارون وعيسى ما بينهما وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجه ، وكانوا يتعنتون فيما يوردونه على القرآن بهذا ودونه. فكيف يجدون ظاهره إثبات رب شأنه هذا ولا ينكرونه؟
والجواب أن قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [سورة القمر] ودعوى الجهمي أن ظاهر هذه إثبات أعين كثيرة كذب ظاهر. فإنه إن دل ظاهره على أعين كثيرة وأيد كثيرة ، دل على خلقين كثيرين ، فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع ، فادّع أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيد كثيرة لآلهة متعددة ، وإلا فدعواك أن ظاهره أيد كثيرة لذات واحدة خلاف الظاهر ، وكذلك قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (سورة القمر : ١٤) إنما ظاهره بزعمك أعين كثيرة على ذوات متعددة لا على ذات واحدة.
(الثاني) أن دعواك أن ظاهر القرآن إثبات أيد كثيرة في جنب واحد كذب آخر. فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في الجنب؟ وكذلك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم فشبهت أولا ، وعطلت ثانيا ، وكذلك جعلك الأعين الكثيرة في الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا ، وإنما أخذته من التشبيه بالآدمي. ولهذا قال بعض أهل العلم : إن كل معطل مشبه ، ولا يستقيم لك التعطيل إلا بعد التشبيه.
(الثالث) أين في القرآن إثبات ساق واحدة لله تعالى وجنب واحد؟ فإنه سبحانه وتعالى قال : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم : ٤٢) وقال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦) فعلى تقدير أن يكون الساق والجنب من الصفات فليس في ظاهر القرآن ما يوجب ألا يكون له إلا جنب واحد وساق واحد. ولو دل على ما ذكرت لم يدل على نفي ما زاد على ذلك لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، حتى القائلين بمفهوم اللقب لا يدل ذلك