والإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان : مطلق ومقيد ، فإذا كان يجيء رحمته أو عذابه كان مقيدا كما في الحديث ، حتى جاء الله بالرحمة والخير ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) (الأعراف : ٥٢) وقوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) (المؤمنون : ٧١) وفي الأثر : لا يأتي بالحسنات إلا الله.
النوع الثاني : المجيء والإتيان المطلق كقوله (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه ، هذا إذا كان مطلقا ، فكيف إذا قيد بما يجعله صريحا في مجيئه نفسه كقوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) فعطف مجيئه على مجيء الملائكة ، ثم عطف مجيء آياته على مجيئه ومن المجيء المقيد قوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (النحل : ٢٦) فلما قيده بالمفعول وهو البنيان وبالمجرور وهو القواعد دل ذلك على مجيء ما بيّنه ، إذ من المعلوم أن الله سبحانه إذا جاء بنفسه لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها ، وهذا يشبه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (الحشر : ٢) فهذا مجيء مقيد لقوم مخصوصين قد أوقع بهم بأسه ، وعلم السامعون أن جنوده من الملائكة والمسلمين أتوهم ، فكان في هذا السياق ما يدل على المراد على أنه لا يمتنع في الآيتين أن يكون الإتيان على حقيقة ، ويكون ذلك دنوا ممن يزيد إهلاكهم بغضه وانتقامه كما يدنو عشية عرفة من الحجاج برحمته ومغفرته ، ولا يلزم من هذا الدنو والإتيان والملاصقة والمخالطة بل يأتي هؤلاء برحمته وفضله ، وهؤلاء بانتقامه وعقوبته ، وهو فوق عرشه إذ لا يكون الرب إلا فوق كل شيء ، ففوقيته وعلوه من لوازم ذاته ، ولا تناقض بين نزوله ودنوه ، وهبوطه ومجيئه ، وإتيانه وعلوه ، لإحاطته وسعته وعظمته وأن السموات الأرض في قبضته ، وأنه مع كونه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، فهو الباطن الذي ليس دونه شيء ، فظهوره بالمعنى الذي فسره به أعلم