قرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت صوتا أحسن منه» (١) فأضاف الصوت إليه ، ثم ذكر حديث ابن عباس : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان متواريا بمكة وكان يرفع صوته بالقرآن ، وفإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (٢) ، ثم قال :
باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم ، وذكر في الباب حديث أبي سعيد الخدري : «يخرج أناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (٣) ، ومعلوم أن المراد التلاوة والأداء وما قام بهم من الأصوات ، وأنها لم تجاوز حناجرهم ، وكان البخاري قد امتحن بهذه الفرقة ، فتجرد للرد عليهم وبالغ في ذلك في كتاب «خلق أفعال العباد» فإنه بناه على ذلك وأن أصوات العباد من أفعالهم أو متولدة عن أفعالهم فهي من أفعالهم ، فالصوت صوت العبد حقيقة ؛ والكلام كلام الله حقيقة ، أداه العبد بصوته كما يؤدى كلام الرسول وغيره بصوته ، فالعبد مخلوق ، وصفاته مخلوقة وأفعاله مخلوقة ، وصوته وتلاوته مخلوقة ؛ والمتلو المؤدى بالصوت غير مخلوق.
واحتج البخاري في «الصحيح» وفي «خلق أفعال العباد» على ذلك بنصوص التبليغ ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) وقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى : ٤٨) وقوله : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) (الأعراف : ٧٩) وهذا من رسوخه في العلم ، فإن ذلك يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ (أحدهما) أن الرسول ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه ، فلو كان هو قد أنشأ ألفاظه لم يكن مبلغا بل منشئا مبتدئا ، ولا تعقل الأمم كلها من التبليغ سوى تأدية كلام الغير بألفاظه ومعانيه ولهذا يضاف الكلام إلى المبلغ عنه لا إلى المبلغ.
__________________
(١) رواه البخاري (٧٦٧) ، ومسلم (٤٦٤).
(٢) رواه البخاري (٧٥٤٧).
(٣) رواه البخاري (٧٥٦٢).