(قلنا) أما الجزم بصدقه فإنه قد يحتف به من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتفت بالمخبر ، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي أن العلم بمجرد الإخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول ما دون العدد لا يفيد أصلا وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه ، وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لا نعقد الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر ، وهذا باطل فإذا كان تلقي الأمة له يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه (صدق) مقبول فإجماع السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه ، فإنه لا يمكن أحدا أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين ، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط أقوال جميعها.
قال : واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره ، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء ، كذلك لا يتعبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم ، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم.
فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم ، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به البتة ، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات ، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما وكذلك يعلمون بالضرورة