والمختار هو القول الأوّل ، لكن المراد من حكم الشارع هو الأعمّ من الإلزامي وغيره ، والدليل على ذلك حكمة الباري تعالى ، فإذا كان الفعل واجداً لمصلحة تامّة أو مفسدة كذلك فكيف يمكن أن لا يكون للشارع فيه حكم مع أنّه قد ثبت عند الإماميّة عدم خلوّ شيء من الأشياء من حكم من الأحكام ، فبعد حكم العقل بالحسن أو القبح يثبت أوّلاً إنقداح إرادة أو كراهة في بعض المبادىء العالية ثمّ بانضمام الكبرى الثابتة في محلّه من عدم خلوّ الأشياء عن الحكم يثبت حكم الشارع ، فالطريق الصحيح عندنا هو حكمة الباري ، ومقتضاها ثبوت الملازمة مطلقاً ، وكيف يعقل ترك التكليف من المولى الحكيم إذا كان في الفعل مصلحة تامّة قطعية أو مفسدة كذلك؟ ومن المعلوم أنّ ترك الأمر والنهي في هذه المقامات منافٍ للحكمة ، فإذا أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر ( أي مصلحة لا معارض لها ) وأدرك علّية ذلك للحكم بتبعية الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد يكشف أيضاً حكم الشارع به ، كحكمه بقبح اختلال النظام الذي يكون علّة لحكم الشارع بحرمته بلا ريب.
وإن شئت فاختبر نفسك أنّه قبل نزول قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ) فهل تحتمل أن لا يكون قتل المؤمن متعمّداً مبغوضاً عند الله وحراماً في حكمه؟ وهل تحتمل أن تتنزّل الآية هكذا : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ الجنّة خَالِداً فِيهَا ) كلاّ ، لا يقول به إلاّ المكابر ، وكذا في أشباهه من الامور التي يدرك العقل حسنها وقبحها ومصالحها ومفاسدها بنحو العلّة التامّة.
واستدلّ المنكرون لعدم الملازمة مطلقاً بوجوه :
الوجه الأوّل : أنّها مخالفة لقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) فإنّها تدلّ على أنّه لا عقاب من دون إرسال المرسل وقبل صدور الأدلّة السمعيّة.
واجيب عنه بوجوه :
الأوّل : أنّ الظاهر من نفي العذاب في هذه الآية إنّما هو نفي الفعليّة لا نفي الاستحقاق ، ومحلّ النزاع في المقام هو الملازمة بين حكم العقل وبين استحقاق العقاب.
ويرد عليه : إنّ هذا لا يفيد الفقيه والاصولي شيئاً ، فإنّ نتيجته على كلّ حال نفي العقاب ،
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.