الواقع عن الحكم لأنّ العمومات والأقيسة تكون بمقدار يوجب عدم خلوّ الوقائع ، وثانياً : لو أدّى إلى خلوّ الوقائع عن الحكم فلا بأس به.
وحقّ الجواب عن هذا أنّه لو كان المراد من المصالح المرسلة المصالح القطعيّة التي ترجع بالمآل إلى المستقلاّت العقليّة وشبهها وقاعدة الملازمة فلا إشكال فيه ، وإن كان المراد منها مجرّد العلم بالمقتضي في الجملة من دون إحراز عدم المانع ووجود الشرائط الذي يوجب الظنّ بالحكم فقط فلا دليل على حجّيته كما مرّ كراراً.
الوجه الثاني : ما نقله عنهم في الاصول العامّة وهو « أنّه لو كانت مصالح الناس تحتاج إلى أكثر ممّا شرّعه وممّا أرشد إلى الإهتداء به لبيّنه ولم يتركه لأنّه سبحانه قال على سبيل الاستنكار : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) (١).
ويمكن الجواب عنه بناءً على عدم المنافاة بين بيان الأحكام لجميع الوقائع وعدم خلوّها منها وبين أن لا تصل جميعها إلينا فلا بدّ من كشفها والاستدلال عليها بالعقل بالطرق الثلاثة المذكورة سابقاً ( طريق علل الأحكام وطريق معلولاتها وطريق الملازمات ) وهذا يرجع في الواقع إلى خلوّ بعض الأحكام من دليل الكتاب والسنّة فيما وصلت إلينا وهو أمر معقول.
الوجه الثالث : ما يستفاد من كلام الغزالي وحاصله : أنّ المصلحة هي المحافظة على مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنّة والإجماع ، فلا بدّ في اعتبار المصلحة من كونها موجودة في الكتاب والسنّة والإجماع وإلاّ نستكشف عدم كونها مصلحة عند الشارع فتكون باطلة مطروحة.
والجواب عنه : أنّا نقبل المقدّمة الاولى في كلامه ، وهي ما يعبّر عنها اليوم بأنّا نأخذ القيم من الشرع ، ولكن المقدّمة الثانية في كلامه وهي انحصار طريق استكشافها في الكتاب والسنّة والإجماع فممنوعة لأنّه قد يكون الطريق هو العقل القطعي.
نعم لا اعتبار بالعقل الظنّي ما لم يدلّ عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنّة أو الإجماع.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المصالح على قسمين : ما يستكشفه العقل القطعي ويحصل العلم بكونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع فيكون حجّة ، وما يستكشفه العقل الظنّي ولا يحصل القطع به فليس بحجّة.
__________________
(١) الاصول العامّة : ص ٤٠٠.