هٰؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ غَداً ، وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ جَمِيعَاً ، فَانْطَلِقُوا فِي حِلٍّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ ، وَهٰذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذِوهُ جَمَلاً ، وَلْيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُم بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَجَزَاكُمُ اللهُ جَميعَاً خيراً ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدائِنِكُمْ حَتَّىٰ يُفَرِّجَ اللهُ ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّما يَطْلُبُونَنَي ، وَلَوْ أَصابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي (١) .
وتمثّلت روعة الإيمان ، وسرّ الإمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسيّة أبي الأحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع ، فقد حدّد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلّوه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتّخذونه ستراً دون كلّ عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ
__________________________
(١) المنتظم : ٥ : ٣٣٧ و ٣٣٨ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٨٥ . الإرشاد : ٢ : ٩١ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣١٧ .
وروي كلامه بصورة اُخرى ، فقد جاء في تفسير العسكري عليهالسلام : ١٧٨ ـ ١٧٩ ، أنّه عليهالسلام قال : أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي ، فَالْحَقُوا بِعَشائِرِكُمْ وَمَوَالِيكُمْ ، وقال لأهل بيته : قَدْ جَعَلْتُكُمْ في حِلٍّ مِنْ مُفارَقَتِي ، فَإِنَّكُم لَا تُطِيقُوهُم ، لِتَضَاعُفِ أَعْدَادِهِمْ وَقُوَاهُمْ وَمَا الْمَقصُودُ غَيْرِي ، فَدَعُونِي وَالْقَوْمَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعينُنِي وَلَا يُخَلِّينِي مِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ كَعَادَتِهِ مَعَ أَسْلَافِنا الطَّيِّبِينَ ، ففارقه جماعة من معسكره .
فقال له أهله : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ، فقال لهم : إِنْ كُنْتُمْ وَطَّنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَلَىٰ ما وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَيْهِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ إِنَّما يَهَبُ الْمَنازِلَ الشَّرِيفَةَ لِعِبادِهِ ؛ لِاحْتِمالِ الْمَكارِهِ ، وَأَنَّ اللهَ كانَ خَصَّنِي مَعَ مَنْ مَضَىٰ مِنْ أَهْليَ الَّذِينَ أَنا آخِرُهُمْ بَقاءً في الدَّنْيا مِنَ الْكَرَاماتِ بِما يُسَهِّلُ عَلَيَّ مَعَها احْتِمالُ الْمَكرُوهاتِ ، فَإِنَّ لَكُمْ شَطْراً مِنْ كَرَامَاتِ اللهِ ، وَاعْلَمُوا أنَّ الدُّنْيا حُلْوَها وَمُرَّها حُلمٌ ، وَالْإِنتِباهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْفائِزُ مَنْ فازَ فِيها ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِيها .