وهكذا يريد الله أن يوجه اهتمام الإنسان إلى هذا القرآن ليقرأه ويتدبره ويعيش مع مفاهيمه المتحركة في مضمون آياته ، ليرى فيها ربه ، ويتعرف إلى نفسه وإلى الحياة من حوله ، ويعي دوره الكبير في خلافة الله في الأرض ، فلا ينظر إليه ككتاب تتحرك فيه الكلمات حسب المعاني اللغوية في كتب اللغة ، بل يعيش معانيه من خلال الآفاق التي تنطلق إليها الروح في عمق الإيمان ، فكان المثل الذي يوضح الصورة هو السبيل إلى إيجاد التأثير العميق الذي يمكن للقرآن أن يتركه في وجدان الإنسان الروحي.
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) بما فيه من عبر وعظات ووصايا ونصائح ، ومفاهيم وأحكام ، وترغيب وترهيب ، وتعداد لمواقع عظمة الله في الكون ، ولامتداد قدرته في خلقه ، وهيمنته على الأمر كله ، (عَلى جَبَلٍ) بكل ما يمثله الجبل من جمود الإحساس لغياب الحياة في داخله ، ومن صلابة الصخر في صخوره القاسية ، ومن ضخامة الحجم الذي يطل به على الأفق الواسع ليحجب الكثير منه في امتداد النظر ، مما لا تستطيع الرياح أن تهز جبروته ، ولا الزلازل أن تسقط قمته ، ولكن هناك شيئا يختلف عن عصف الرياح وخطورة الزلازل ، يمكن أن يصدعه فيتشقق ، ويثير الإحساس فيه فيخشع ، وهو القرآن النازل من الله عليه لو قدر أن ينزله الله عليه كما أنزله على الإنسان ، (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) لأن طبيعة معانيه تؤثر في العمق منه ، بالرغم من الصلابة والضخامة والجمود الذاتي فيه ، وإذا كانت هذه هي الحال مع الجبل ، فكيف يجب أن يتمثله الإنسان المملوء وعيا وشعورا في انفعاله به في ما يعيشه من خشية الله ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) في ما يستهدفه القرآن من أسلوب الأمثال الذي يعني تشبيه الأشياء ببعضها البعض ، لإيضاح الفكرة ، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ليكتشفوا من خلال الفكر شيئا جديدا في المعرفة ، وأفقا واسعا في وعي العقل والشعور.
* * *