وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلا من كثير ، كقبس من نار يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه ، وهو غافل عما وراءه ، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب ، وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.
وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى ، فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه.
وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا ، لأنه توكل على الله وفوّض إلى ربه ما كان لنفسه ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أخرى ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به» (١).
ونلاحظ على هذا التفسير ، أنه بعيد عن ظاهر الآية ، لو نظرنا إليها بنفسها ، فإنها تشبه الآيات التي تتحدث عن الوعد بالجنة أو بالنصر ، أو بالفلاح على تقدير السير في خط التقوى الذي يتمثل في خط السير العملي للإنسان ، لتكون الأمور المترتبة عليه بمثابة الجزاء على التقوى ، من دون أن تكون بمثابة النتائج الداخلية المعنوية له ، بل هي بمثابة الأمور المنفصلة عنه. ولعل التعمق الفلسفي العرفاني هو الذي أدى إلى الفهم بعيدا عن منطق الآية
* * *
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٣٢٩.