وكتب إلى عبد الملك يعظّم فيه أمر الخلافة ويزعم أنّ السموات والأرض ما قامتا إلّا بها ، وانّ الخليفة عند الله افضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين ، وذلك أنّ الله خلق آدم بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه جنّته ، ثمّ أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته ، وجعل الملائكة رسلا إليه ، فأعجب عبد الملك بذلك ، وقال : لوددت أنّ بعض الخوارج عندي فأخاصمه بهذا الكتاب ... الحديث (١).
وفي مرّة واحدة أنزل من قدر الخليفة وجعله مساويا للرسول فقد قال في خطبة كما في سنن أبي داود والعقد الفريد : أنّ مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم ، ثمّ قرأ هذه الآية «إذ قال الله يا عيسى إني متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة» (٢).
وفي العقد الفريد : بعد «من الذين كفروا» أنه أشار بيده إلى أهل الشام (٣) أي أنّهم الّذين اتبعوا الخليفة فجعلهم الله فوق الذين كفروا وهم أهل العراق ، وأمر الوليد ابن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري ، فحفر بئرا بمكة فجاءت عذبة الماء طيّبة ، وكان يستسقي منها الناس ، فقال خالد في خطبته على منبر مكّة : أيّها الناس أيّهما أعظم خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟ والله لم تعلموا فضل الخليفة ألّا إنّ إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحا أجاجا واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا. يعني بالملح زمزم وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين ثنية طوى وثنية الحجون فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم ، قال الراوي : ثمّ غارت البئر فذهبت فلا يدرى أين هي اليوم (٤).
* * *
بلغت عصبة الخلافة (٥) إلى هذا الحدّ من الإسفاف في توجيهها الأمّة على تقديس مقام الخلافة وخاصة مقام الخليفتين الأولين : أبي بكر وعمر (رض) ، وبلغت في ذلك باخريات عهد عمر (رض) مستوى من التربية الفكرية للأمّة كان مقبولا معها
__________________
(١) العقد الفريد ٥ / ٥١.
(٢) سورة آل عمران آية / ٥٥.
(٣) سنن أبي داود ٤ / ٢٠٩ ، والعقد الفريد ٥ / ٥١.
(٤) في ذكر حوادث سنة تسع وثمانين من الطبري ٥ / ٦٧ ، وابن الأثير ٤ / ٢٠٥ ، وابن كثير ٩ / ٧٦.
(٥) قصدنا من لفظ العصبة معناه اللغوي وهو العصابة : أي الجماعة من الرجال وذلك ما قصده الرسول (ع) في غزوة بدر عند ما دعا ربه وقال في حق أصحابه : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد.