(الرد على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان)
الحمد لله الذي كل شيء هالك إلا وجهه ، الذي به قامت سماواته وأرضه ، واستوى على عرشه ، فلا شيء في استوائه يماثله ، لأنه عن شبه كل شيء تعالى ، وهو لكلنا شاهد ولنا باري ، وكلنا عليه لا يخفى سامع النجوى ، والعالم بما في الضمير وأخفى.
اعلموا رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه كلامه ، لسانا عربيا مبينا ، أوجز البلاغات وأبلغه إيجازا ، وليس للأميين (١) في اللغة أن يتأولوا في الكتاب ما لا يدركه المتأولون من رباني (٢) اللغة والكتاب ، وقد علم رباني اللغة أن لها تصاريف المذاهب وفنون الجهات ، وأنها ذات قيم (٣) وأمواج وأطناب ولطائف ودقائق في بيان.
وإن فرقة من البدعيّة (٤) استعجمت في كتاب الله ، وسارعت في تأويله من غير فصاحة بالتأويل ، ولا فهم في التنزيل ، ولا آلة في العلم باللغات ، فتأولت بالعجمة إذ تأولته ، ولما سمعوا كلام الله وما فيه من قول المطعمين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٥] ، وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]. إن
__________________
(١) قال قطرب : الأمية الغفلة ، والجهالة ، وأيضا معناها : قلة المعرفة.
(٢) الرباني : المتألّه العارف بالله. قيل منسوب إلى الربّان. وقيل إلى الرب ، أي : الله تعالى ، فالرباني كقولهم : إلهيّ ، وزيادة النون فيه كزيادته في جسماني ، قال علي عليهالسلام : أنا رباني هذه الأمة. والجمع ربانيون ، قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ). (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ). والرّبي : بمعنى : الرباني في قوله تعالى : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وقيل الرباني : لفظ في الأصل سرياني.
(٣) القيم : جمع قامة ، وأمواج جمع موج وهو : الاضطراب. وأطناب : جمع طنب ومن معانيها : الطرائق. ولطائف : جمع لطيفة. واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي. ودقائق : جمع دقيقة ، والدقيق : الغامض. والمعنى الإجمالي : أن للغة العربية نواح عديدة وأبعادا وغوامض ، لا تفهم إلا للمتبحرين في علومها.
(٤) البدعية نسبة إلى البدعة. واستعجم : التبس.