خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨) فما هاهنا مصدرية وقتية ، وهو استثناء ما دل عليه الأول ، وهو كونها مثواهم بوصف الخلود ، فلا بد أن يكون المستثنى مخرجا لما دخل فيه المستثنى منه وهو خلودهم فيها. فلا بد أن يكون المستثنى مخالفا لذلك ، إذ يمتنع تماثلهما وتساويهما ، وغاية ما يقال : إن المستثنى واقع على ما قبل الدخول لا على ما بعده ، وهو مدة لبثهم في البرزخ وفي مواقف القيامة ، وهذا لا يتأتى هاهنا ، فإن هذا قد علم انتفاء الدخول في وقته قطعا ، فليس في الإخبار به فائدة وهو بمنزلة أن يقال : أنتم خالدون فيها أبدا إلا المدة التي كنتم فيها في الدنيا. وهذا ينزه عنه كلام الفصحاء البلغاء ؛ فضلا عن كلام رب العالمين. وهو بمنزلة أن يقال للميت : أنت مقيم في البرزخ إلا مدة بقائك في الدنيا ، وليس هذا مثل قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (الدخان : ٥٦) فإن هذا استثناء منقطع قصد به تقرير المستثنى منه ، وأنه عام محفوظ لا تخصيص فيه ، إذ من الممتنع أن يكون تخصيص باستثناء فيعدل عن ذكره إلى غير جنسه.
ونظيره قولهم : ما زاد إلا نقصا فإنه يفيد القطع بعدم زيادته ، وإنه إن كان ثم تغير فبالنقصان ؛ وليس هذا مخرج قوله : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ولو أريد هذا لقيل : لا يخرجوا منها أبدا إلا مدة مقامهم في الدنيا فهذا يكون وزان قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وكان يفيد ذلك تقرير عدم خروجهم منها. وأما إذا قيل خالدين فيها إلا ما شاء الله لا يخلدون ، فأن ذلك يفيد أن لهم حالين : فإن قيل هذا ينتقض عليكم بالاستثناء في أهل الجنة ، فإن هذا وارد فيهم بعينه. قيل قد اقترن بالاستثناء في أهل الجنة ما ينافي ذلك وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ولهذا والله أعلم عقب الاستثناء بهذا رفعا لهذا التوهم وعقب الاستثناء في أهل النار بالإخبار بأنه يفعل ما يريد ، ولا حجر عليه سبحانه فيما يريد بهم من عذاب أو إخراج منه ، فإن الأمر راجع إلى مشيئته وإرادته التي لا تخرج عن علمه وحكمته. كما عقب الاستثناء في سورة الأنعام بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فدل ذلك على أنه أدخلهم النار بحكمته وعلمه بأنه لا يصلح لهم سواها وله حكمة وعلم فيهم لا يبلغه العباد ، فإن اقتضت