حكمته وعلمه فيهم غير ذلك لم تقصر عنه مشيئته النافذة وقدرته التامة.
ومما يوضح الأمر في ذلك أنه في آية الأنعام خاطبهم بذلك ، إما في النار وإما في موقف القيامة ، ولم يقيد مدة الخلود بدوام السماوات والأرض فقال (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً : يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ، قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨) فأمكن أن يكون هذا الاستثناء هو مدة مقامهم في البرزخ وفي مدة القيامة. وأما أن يقول لهم وهم في النار (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهو يريد مدة لبثهم في البرزخ وفي الموقف ؛ فهذا أمر قد علموه وشاهدوه ، فأي فائدة حصلت في الإخبار به؟
الوجه التاسع عشر : قوله : وإذ خلقني فلم كلفني السجود لآدم وقد علم أني أعصيه؟ فيقال له : كفى بك جهلا ولؤما أن سميت أمره وطاعته التي هي قرة العيون وحياة النفوس تكليفا ؛ والتكليف إلزام الغير بما يشق عليه ويكرهه ولا يحبه ؛ كما يقول القائل : لا أفعل هذا إلا تكلفا. ولا ريب أن هذا لما كان كامنا في قلبك ظهر أثره في امتناعك من الطاعة ، ولو علمت أن أمره سبحانه هو غاية مصلحة العبد وسعادته ، وفلاحه وكماله لم تقل إنه كلفك بالسجود ، ولعلمت أنه أراد به مصلحتك ورحمتك وسعادتك الأبدية ، وقد سمى الله تعالى أوامره عهودا ووصايا. ورحمة وشفاء ونورا وهدى وحياة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال : ٢٤) فتأمل الفرق بين هذا الخطاب وبين قول القائل إنه دعاهم بأمره إلى تكليف ما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه لا لحكمة ولا لمصلحة ولا لصفة حسنة في الأمر تقتضى دعاءهم إليه ، ولم يأمرك حاجة منه إليك ، ولا عبثا ولا سدى ؛ وكأنك لم تعرف أن أوامره رحمة ونعمة ومصلحة ، ونواهيه حمية وصيانة وحفظا ، وهل وفق للصوب من أمره سيده بأمر ينفذه فقال له : لم أمرتنى بذلك ، وهلا تركتني ولم تأمرني؟ فمن أضل من هذا العبد سبيلا؟
الوجه العشرون : إنه سبحانه لما كان يعلم منك من الخبث والشر الكامن في