وهذا عند أهل الحديث أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس فإنهما من أفاضل الأطباء ، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه والخليل والفراء وعلمهم بالعربية ، ولكن أهل الكلام وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به ؛ وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روى في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان كما يجده لأكابر شيوخ المعتزلة كأبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير ، ولم يعلم أن فيها ما يقارب بثلاثين حديثا ، وقد ذكرناها في كتاب صفة الجنة «حادي الأرواح».
فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم وما يعلم أن كثيرا من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علما ، لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله ، فإذا اتفق له إعراض عنها أو نفرة عن روايتها ، وإحسان ظن بمن قال بخلافها أو تعارض خيال شيطاني يقوم بقلبه ، فهناك يكون الأمر كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (فصلت : ٤٤).
فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيمانهم ولا علما وحصول العلم في القلب بموجب التواتر مثل الشبع والري ونحوهما ، وكل واحد من الأخبار يفيد قدرا من العلم ، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم ، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما ، كما يحصل الشبع إما بكثرة أو بقوة المأكول وإما لمجموعهما.
والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه بل بفهم معناه مع سماع لفظه ، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار : العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناه ، حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه ، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث ، شاهدين بها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم جازمين بأن من كذب بها أو أنكر