وأما إن كانت الأحوال الماضية موجبة للسعادة ثم أنها ما بقيت بل فاتت ، فكلما تذكر الإنسان تلك المراتب الفانية اشتعلت نيران الحسرة فى قلبه بسبب فواتها بعد حصولها وزوالها بعد وجودها.
وأما إن كانت تلك الأحوال لا موجبة للسعادة ولا للشقاوة ، فحينئذ كانت من باب العبث الّذي لا فائدة فيه ـ وكلما تذكر الإنسان تلك الأحوال عرف أنه قد ضيع ذلك الّذي مر من عمره فى العبث الّذي (لا) فائدة فيه ، مع أنه كان يمكنه أن يصرف أوقاته فى اكتساب السعادات العالية والدرجات الرفيعة ، وحينئذ تشتعل نيران الحسرة والاسف فى قلبه بسبب تضييع العمر ، ثم أنه ربما رأى أقرانه واشباهه قد اجتهدوا فى سالف العمر فى طلب الفضائل وفازوا بسبب ذلك الجد والجهد فائزين بالمناقب العالية والمراتب الشريفة ، فإذا رأى نفسه نازلا خسيسا متخلفا عن اقرانه واشباهه مات غما واسفا ، فثبت أن تأمله فى الاحوال الماضية لا يفيد إلا الحزن والأسف.
وأما الحالة الراهنة القائمة فأمر عجيب ، وذلك لأنها لا بد وأن تكون نهاية الماضى وبداية المستقبل ، ومتى كان ذلك منقسما (١) ، وليس كذلك ، إذ لو كان ذلك الوقت منقسما لكان بعض الأجزاء المعرضة قبل البعض ، فحينئذ لا يكون كله حاضرا ، هذا خلف.
وإذا عرفت هذا ظهر انه لا يمكن أن يكون الزمان الّذي هو مقدار طرف العين حاضرا لأن ذلك الزمان حصل فيه حركة طرف الجفن على سطح الحدقة ، وسطح الحدقة منقسم بأقسام ولا نهاية لها عند الحكماء ، وبأقسام كثيرة متناهية عند غيرهم ، وعلى هذا التقدير يكون الآن
__________________
(١) المخطوطة : ذلك منقسمة