لأن الإنسان إنما يكون إنسانا لحصول نور العقل واطلاعه على عالم الغيب والأنوار الإلهية ، فإذا اشتغل الإنسان باستيفاء هذه اللذات الجسدانية تكدرت القوة العقلية ، وانسد عليه باب المعارف ، وصارت البهيمية عليه غالبة ، والإنسانية مفقودة ، ولما كان شرف الإنسان باستيفاء هذه اللذات الحسية يبطل عليه معنى الإنسانية ، ثبت ان الاشتغال بها شيء فى غاية المذمة.
السابع أن أصل أحوال الإنسان اشتغاله بمعرفة الله تعالى واقباله على طاعته واستغراقه فى محبته ، ثم اشتغال الإنسان باستيفاء اللذات الجسدانية والطيبات الحسية يمنعه عن عبودية الله ويصده عن ذكر الله ، ولما كانت تلك المعارف أشرف مراتب المخلوقات وهذه اللذات الحسية مانعة عنها كانت هذه اللذات أخس الأشياء ضرورة أنه كلما كان الشيء أشرف كان ضده العائق عنه والمنافى لحصوله أخس ، فهذه وجوه دالة على كون الدنيا مذمومة لذاتها.
فأما الوجوه الدالة على كونها مذمومة لأمور لازمة لها فكثيرة ـ ونحن نشير إلى بعضها : فنقول :
الأول انها سريعة الزوال ، قريبة الانقضاء ، ومعلوم أن الإنسان إذا احب شيئا ، ثم اتصل بمحبوبه والتذ بمواصلته وابتهج بالاختلاط به ثم إنه فارقه وانفصل عنه ، تألم بسبب ذلك الفراق ، ويكون مقدار التألم الحاصل بسبب مفارقته مساويا لمقدار الالتذاذ الحاصل بسبب مواصلته ، وإذا كان كذلك فكلما كان حب الدنيا أشد فى هذه الحياة كانت الآلام الحاصلة بمفارقته بعد الموت والحسرات المترادفة هناك أقوى وأكمل ، ثم مع حصول التساوى من هذا الوجه حصل الترجيح