الرابع أن الإنسان إذا استوفى من هذه اللذات قدر الحاجة والكفاية فإنه لا يلتذ بعد ذلك بما يستعمله منها ، بل يملها (١) ويسأم منها ، ثم بعد حصول (الورقة ٢٧٨ و) الملال لو كلف باستيفائها مرة اخرى لتألم بادراكها ، فإنه إذا أكل اكلا تاما وكلف بعد ذلك بالاكل تألم به. ومن قضى وطره من الوقاع ثم كلف بالزيادة عليه لتألم منه ، وهذا يدل على أن هذه اللذات ليست فى أنفسها خيرات وسعادات ، بل إنما ينتفع بها عند حصول الاحتياج إليها ، فعند زوال الحاجة تصير هذه الاشياء كلا ووبالا على النفوس والأرواح.
الخامس الأشياء التى تستلذ وتستطاب فى الدنيا قد كانت موصوفة بصفات مكروهة منفرة وستصير أيضا كذلك. ألا ترى أن الحنطة قد كانت قبل صيرورتها حنطة عفنة فى رطوبة الأرض ممن صارت عشبا وتشربت رطوبات القاذورات والسرجين. ثم إذا استوت وصنعت فأكلت اختلطت فى الفم بالبصاق واللعاب الّذي لو رآه آكله لأنف من أكله واستقذره ، ثم يعود فى آخر الأمر إلى الرجيع المنتن والشيء المستبعد ، وكذا (٢) اللحوم والحلاوات والفواكه ، فالعاقل إذا تأمل فيها وجدها منتنة الأصل ، قذرة الجوهر ، فاسدة السنخ (٢ ، إلا أنه تعالى أعارها لونا ورائحة وطعما فى زمان قليل مقدار ما ينتفع المكلف به ليقدر به على طاعة الله ومصالح معاشه ، ثم أنها فى الحال تعود إلى القذارة الأصلية والرداءة الطبيعية.
السادس أن استعمال هذه اللذات ينافى معى الإنسانية ، وذلك
__________________
(١) المخطوطة : يميلها
(٢) أيضا : كذى