ثم أنه لما كان لا صفة لهذا القسم من الروحانيات إلا الاستغراق فى المعارف الإلهية وتعقل تلك الجلالات الصمدية ، لا جرم سمى الحكماء الإلهيون لهذا القسم من الأرواح بالعقول المحضة ، لأنها وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها ، إلا أنها لكثرة تعدادها وشدة معارفها صاروا كأنهم عين تلك التعقلات ، ونفس تلك الإدراكات.
فإن قال قائل : فعلى ما تقولونه انتم؟ لم يبق لهذا القسم من الروحانيات إلا قبول الوجود عن الحق ، وقبول القدسية عن أضواء للوائح لجلال الحق ، وكل ذلك انفعال وتاثير ، فأين الأثر والفعل؟
قلنا : إنها وإن كانت مستغرقة فى تلك التعقلات الإلهية للأضواء الصمدية ، إلا أنه لا يبعد أن تفيض عنها آثارها إلى عالم الأرواح أو على الأجرام الفلكية ، فيضان النور عن الشمس والحياة عن الروح ، وبهذا التقدير أنها تكون فعالة لا يبعد أن تكون مرتبة من مراتب تلك النفوس المشرقة ، اذا كانت أدنى حالا من غيرها ، فإنها تقبل تلك الأضواء عن ذلك الغير الّذي هو أكمل منها (١) ، كما أن الشمس والقمر ، وإن كانا فى العالم الجسمانى جوهرين علويين شريفين (٢) ، إلا أن القمر لما كان أضعف حالا من الشمس لا جرم صار يقبل النور عنها ، ثم أنه بعد قبول ذلك النور عن الشمس يصير فياضا على العالم الأرضى السفلى ، ولا يبعد ان يكون حال الروحانيات هكذا.
وأما الدرجة الثانية من عالم الأرواح والنفوس فهم الذين التفتوا
__________________
(١) المخطوطة : منه
(٢) أيضا : سريعين