وإن قلنا بالاحتمال الثالث فتكون المسألة من قبيل اشتباه الحجّة بلا حجّة ، فتصير حينئذٍ حجّية كلّ منهما ظنّية ، وقد ثبت في محلّه أنّ احتمال العدم في باب الحجّية يساوق عدم الحجّية.
وإن شئت قلت : قد ثبت في محلّه أنّ الأصل في الظنون عدم الحجّية.
المسألة الثالثة : في مقتضى القاعدة الأوّليّة بعد التساقط فنقول : مقتضى القواعد العامّة الفقهيّة بعد الشكّ في حكم خاصّ وإجمال الدليل هو الرجوع إلى العمومات والأدلّة الاجتهادية أوّلاً فإن ظفرنا بها فهو ، وإلاّ تصل النوبة إلى الاصول العمليّة ، ففي المثال المعنون في محلّ البحث مثلاً لو فرض إجمال قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) لابدّ من الرجوع أوّلاً إلى العمومات الواردة في المسألة ، وقيل أنّ العام فيها قوله : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) لأنّ عموم « أنّى شئتم » يشمل جميع الأزمنة ( لأنّه بمعنى « متى شئتم » أو « أي زمان شئتم » ) وخرج عنه خصوص زمان وجود الدم فقط ، فبمجرّد النقاء يأتي جواز الوقاع لذلك العموم ولا تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة.
هذا إذا قلنا أنّ كلمة « أنّى » بمعنى « متى » فحسب ، وأنّ معناها واضح لا إجمال فيه ، وأمّا إذا قلنا بإجماله كما أنّه كذلك لأنّه ذكر لها في اللغة ثلاث معانٍ ففي المجمع البحرين « أنّى » بمعنى « متى » و « أنّى » بمعنى « كيف » و « أنّى » بمعنى « أين » ( كقوله تعالى : أنّى لك هذا ) بل بعض اللغويين لم يذكروا المعنى الأوّل ، وهو الراغب في المفردات ( الذي هو من أئمّة اللغة وكتابه مختصّ بلغات القرآن ومحلّ البحث في المقام من جملتها ) فيثبت حينئذٍ عدم تماميّة الدليل اللفظي الاجتهادي وتصل النوبة إلى الرجوع إلى الاصول العمليّة ، والأصل العملي في المثال هو استصحاب وجوب الاعتزال لأنّ موضوعه هو خصوص النساء وليس سيلان الدم من مقوّماته حتّى يوجب تغيير الموضوع بعد الانقطاع بل هي من حالاته كاستصحاب النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ، ولو فرض كونه مقوّماً كما إذا قلنا بأنّ معنى قوله تعالى « اعتزلوا النساء » قولك « اعتزلوا الحائض » يجري الاستصحاب أيضاً لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك عند العرف في المقام لما عرفت من أنّ الحيض عند العرف ليس من مقدّمات الموضوع بل إنّه من حالاته بخلاف ما إذا صار المجتهد ناسياً لعلومه فلا يجوز تقليده بعد عروض النسيان تمسّكاً باستصحاب جواز التقليد لأنّ الاجتهاد عند العرف من مقوّمات الموضوع بالنسبة إلى هذا الحكم فيلزم تبدّل الموضوع بعد عروض النسيان.