وقال بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا : أنّ مراد المتكلّمين من قاعدة اللطف هو ما يسمّى عند علماء الحقوق في يومنا هذا بضمانة الإجراء ، فإنّهم بعد وضع القوانين يضعون لإجرائها ضامناً من الحبس والجريمة وغيرها ممّا يوجب الحركة نحو امتثال الواجبات والإجتناب عن المحرّمات ، فهي بحسب الحقيقة لطف بالنسبة إلى من يكون مكلّفاً بهذه القونين ، فكذلك في ما نحن فيه.
ولكن الإنصاف أنّ المراد من اللطف في كلماتهم معنى أوسع من ذلك ، لأنّه يشمل أيضاً ما يوجب إيجاد ظروف ثقافيّة وفكريّة لتكميل النفوس القابلة والإرشاد إلى مناهج الصلاح من بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنذار والتبشير ، ولذلك يعدّ من أهمّ أدلّة لزوم بعث الرسل قاعدة اللطف ، ولا إشكال في أن الغرض من إنزال الكتب السماويّة وإرسال الرسل الإلهية ليس منحصراً في الإنذار والوعد والوعيد بل يعمّ إيجاد تلك الظروف التربويّة أيضاً.
وكيف كان ، لا بدّ من البحث أوّلاً : في كبرى القاعدة وثانياً : في تطبيقها على المقام.
أمّا الكبرى فاستدلّ لها بلزوم نقض الغرض ، لأنّ المولى أو المقنّن المشرّع عليه أن يوجد شرائط ومقدّمات إجراء أحكامه وقوانينه ، ولو كان الغرض من الجعل إنفاذها في الخارج فهو ، وإلاّ لنقض غرضه ، وهذا كمن يدعو رجلاً إلى داره ويريد إكرامه ومع ذلك لا يهيىء مقدّماته من إرسال رسالة إليه مثلاً وغيرها من سائر المقدّمات التي يعلم أنّه لولاها لما استجاب دعوته فيعدّ عند العقلاء ناقضاً للغرض ، كذلك في المقام فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليوصله إلى الكمال بطاعته وترك معصيته ، وهذا يحتاج إلى بعث الرسل وإنزال الكتب والإرشادات المستمرّة وجعل تكاليف كالصلاة والصّوم والحجّ ، وإلاّ فقد نقض غرضه.
قلنا : أنّ هذا مقبول تامّ ولكنه بالنسبة إلى الشرائط والمقدّمات التي يوجب عدمها نقض الغرض لا غير.
وبعبارة اخرى : المقدّمات على ثلاثة أقسام : قسم منها يعدّ من شرائط القدرة ، ولا إشكال في لزوم حصول هذا القسم.
وقسم آخر منها يوجب حصولها الإجبار في العمل أو الترك ، ولا إشكال في منافاته للتكليف لأنّ المفروض كون العبد مختاراً.